الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } قوله تعالى{ومن يقتل }{من }شرط، وجوابه {فجزاؤه }وسيأتي. واختلف العلماء في صفة المتعمد في القتل؛ فقال عطاء والنخعي وغيرهما: هو من قتل بحديدة كالسيف والخنجر وسنان الرمح ونحو ذلك من المشحوذ المعد للقطع أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقال الحجارة ونحوها. وقالت فرقة: المتعمد كل من قتل بحديدة كان القتل أو بحجر أو بعصا أو بغير ذلك؛ وهذا قول الجمهور. ذكر الله عز وجل في كتابه العمد والخطأ ولم يذكر شبه العمد وقد اختلف العلماء في القول به؛ فقال ابن المنذر: أنكر ذلك مالك، وقال: ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ. وذكره الخطابي أيضا عن مالك وزاد: وأما شبه العمد فلا نعرفه. قال أبو عمر: أنكر مالك والليث بن سعد شبه العمد؛ فمن قتل عندهما بما لا يقتل مثله غالبا كالعضة واللطمة وضربة السوط والقضيب وشبه ذلك فإنه عمد وفيه القود. قال أبو عمر: وقال بقولهما جماعة من الصحابة والتابعين. وذهب جمهور فقهاء الأمصار إلى أن هذا كله شبه العمد. وقد ذكر عن مالك وقال ابن وهب وجماعة من الصحابة والتابعين. قال ابن المنذر: وشبه العمد يعمل به عندنا. وممن أثبت شبه العمد الشعبي والحكم وحماد والنخعي وقتادة وسفيان الثري وأهل العراق والشافعي، وروينا ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما. قلت: وهو الصحيح؛ فإن الدماء أحق ما احتيط لها إذ الأصل صيانتها في أهبها، فلا تستباح إلا بأمرين لا إشكال فيه، وهذا فيه إشكال؛ لأنه لما كان مترددا بين العمد والخطأ حكم له بشبه العمد؛ فالضرب مقصود والقتل غير مقصود، وإنما وقع بغير القصد فيسقط القود وتغلظ الدية. وبمثل هذا جاءت السنة؛ روى أبو داود من حديث مسألة: واختلف القائلون بشبه العمد في الدية المغلظة، فقال عطاء والشافعي: هي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة. وقد روي هذا القول عن عمر وزيد بن ثابت والمغيرة بن شعبة وأبي موسى الأشعري؛ وهو مذهب مالك حيث يقول بشبه العمد، ومشهور مذهبه أنه لم يقل به إلا في مثل قصة المدلجي بابنه حيث ضربه بالسيف. وقيل: هي مربعة ربع بنات لبون، وربع حقاق، وربع جذاع، وربع بنات مخاض. هذا قول النعمان ويعقوب؛ وذكره أبو داود عن سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي. وقيل: هي مخمسة: عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة؛ هذا قول أبي ثور. وقيل: أربعون جذعة إلى بازل عامها وثلاثون حقة، وثلاثون بنات لبون. وروي عن عثمان بن عفان وبه قال الحسن البصري وطاوس والزهري. وقيل: أربع وثلاثون خلفة إلى بازل عامها، وثلاث وثلاثون حقة، وثلاث وثلاثون جذعة؛ وبه قال الشعبي والنخعي، وذكره أبو داود عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي. واختلفوا فيمن تلزمه دية شبه العمد؛ فقال الحارث العكلي وابن أبي ليلى وابن شبرمة وقتادة وأبو ثور: هو عليه في ماله. وقال الشعبي والنخعي والحكم والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي: هو على العاقلة. قال ابن المنذر: قول الشعبي أصح؛ لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية الجنين على عاقلة الضاربة. أجمع العلماء على أن العاقلة لا تحمل دية العمد وأنها في مال الجاني؛ وقد تقدم ذكرها في {البقرة}. وقد أجمعوا على أن على القاتل خطأ الكفارة؛ واختلفوا فيها في قتل العمد؛ فكان مالك والشافعي يريان على قاتل العمد الكفارة كما في الخطأ. قال الشافعي: إذا وجبت الكفارة في الخطأ فلأن تجب في العمد أولى. وقال: إذا شرع السجود في السهو فلأن يشرع في العمد أولى، وليس ما ذكره الله تعالى في كفارة العمد بمسقط ما قد وجب في الخطأ. وقد قيل: إن القاتل عمدا إنما تجب عليه الكفارة إذا عفي عنه فلم يقتل، فأما إذا قتل قودا فلا كفارة عليه تؤخذ من ماله. وقيل تجب. ومن قتل نفسه فعليه الكفارة في ماله. وقال الثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي: لا تجب الكفارة إلا حيث أوجبها الله تعالى. قال ابن المنذر: وكذلك نقول؛ لأن الكفارات عبادات ولا يجوز التمثيل. وليس يجوز لأحد أن يفرض فرضا يلزمه عباد الله إلا بكتاب أو سنة أو إجماع، وليس مع من فرض على القاتل عمدا كفارة حجة من حيث ذكرت. واختلفوا في الجماعة يقتلون الرجل خطأ؛ فقالت طائفة: على كل واحد منهم الكفارة؛ كذلك قال الحسن وعكرمة والنخعي والحارث العكلي ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي. وقالت طائفة: عليهم كلهم كفارة واحدة؛ هكذا قال أبو ثور، وحكي ذلك عن الأوزاعي. وفرق الزهري بين العتق والصوم؛ فقال في الجماعة يرمون بالمنجنيق فيقتلون رجلا: عليهم كلهم عتق رقبة، وإن كانوا لا يجدون فعلى كل واحد منهم صوم شهرين متتابعين. روى النسائي: واختلف العلماء في قاتل العمد هل له من توبة ؟ فروى البخاري حللت به وتري وأدركت ثورتي *** وكنت إلى الأوثان أول راجع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقد تقدم. جواب ثان: إن جازاه بذلك؛ أي هو أهل لذلك ومستحقه لعظيم ذنبه. نص على هذا أبو مجلز لاحق بن حميد وأبو صالح وغيرهما. وهذا كله يدل على أن الخلد يطلق على غير معنى التأبيد؛ فإن هذا يزول بزوال الدنيا. وكذلك العرب تقول: لأخلدن فلانا في السجن؛ والسجن ينقطع ويفنى، وكذلك المسجون. ومثله قولهم في الدعاء: خلد الله ملكه وأبد أيامه. وقد تقدم هذا كله لفظا ومعنى. والحمد لله. {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا} قوله تعالى{يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله} هذا متصل بذكر القتل والجهاد. والضرب: السير في الأرض؛ تقول العرب: ضربت في الأرض إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيره؛ مقترنة بفي. وتقول: ضربت الأرض دون {في} إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: واختلف في تعيين القاتل والمقتول في هذه النازلة، فالذي عليه الأكثر وهو في سير ابن إسحاق ومصنف أبي داود والاستيعاب لابن عبدالبر أن القاتل محلم بن جثامة، والمقتول عامر بن الأضبط فدعا عليه السلام على محلم فما عاش بعد ذلك إلا سبعا ثم دفن فلم تقبله الأرض ثم دفن فلم تقبله ثم دفن ثالثة فلم تقبله؛ فلما رأوا أن الأرض لا تقبله ألقوه في بعض تلك الشعاب؛ وقال عليه السلام: قوله تعالى{فتبينوا} أي تأملوا. و{تبينوا }قراءة الجماعة، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، وقالا: من أمر بالتبين فقد أمر بالتثبيت؛ يقال: تبينت الأمر وتبين الأمر بنفسه، فهو متعد ولازم. وقرأ حمزة {فتثبتوا }من التثبت بالثاء مثلثة وبعدها باء بواحدة {وتبينوا }في هذا أوكد؛ لأن الإنسان قد يتثبت ولا يبين. وفي {إذا }معنى الشرط، فلذلك دخلت الفاء في قوله {فتبينوا}. وقد يجازى بها كما قال: والجيد ألا يجازى بها كما قال الشاعر: والتبين التثبت في القتل واجب حضرا وسفرا ولا خلاف فيه، وإنما خص السفر بالذكر لأن الحادثة التي فيها نزلت الآية وقعت في السفر. قوله تعالى{ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا} السلم والسلم، والسلام واحد، قال البخاري. وقرئ بها كلها. واختار أبو عبيد القاسم بن سلام {السلام}. وخالفه أهل النظر فقالوا{السلم }ههنا أشبه؛ لأنه بمعنى الانقياد والتسليم، كما قال عز وجل وروي عن أبي جعفر أنه قرأ { لست مؤمَنا }بفتح الميم الثانية، من آمنته إذا أجرته فهو مؤمن. والمسلم إذا لقي الكافر ولا عهد له جاز له قتله؛ فإن قال: لا إله إلا الله لم يجز قتله؛ لأنه قد اعتصم بعصام الإسلام المانع من دمه وماله وأهله: فإن قتله بعد ذلك قتل به. وإنما سقط القتل عن هؤلاء لأجل أنهم كانوا في صدر الإسلام وتأولوا أنه قالها متعوذا وخوفا من السلاح، وأن العاصم قولها مطمئنا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه عاصم كيفما قالها؛ ولذلك قال لأسامة: (أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ) أخرجه مسلم. أي تنظر أصادق هو في قوله أم كاذب ؟ وذلك لا يمكن فلم يبق إلا أن يبين عنه لسانه. وفي هذا من الفقه باب عظيم، وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر لا على القطع واطلاع السرائر. فإن قال: سلام عليكم فلا ينبغي أن يقتل أيضا حتى يعلم ما وراء هذا؛ لأنه موضع إشكال. وقد قال مالك في الكافر يوجد فيقول: جئت مستأمنا أطلب الأمان: هذه أمور مشكلة، وأرى أن يرد إلى مأمنه ولا يحكم له بحكم الإسلام؛ لأن الكفر قد ثبت له فلا بد أن يظهر منه ما يدل على قوله، ولا يكفي أن يقول أنا مسلم ولا أنا مؤمن ولا أن يصلي حتى يتكلم بالكلمة العاصمة التي علق النبي صلى الله عليه وسلم الحكم بها عليه في قوله: فإن صلى أو فعل فعلا من خصائص الإسلام فقد اختلف فيه علماؤنا؛ فقال ابن العربي: نرى أنه لا يكون بذلك مسلما، أما أنه يقال له: ما وراء هذه الصلاة ؟ فإن قال: صلاة مسلم، قيل له: قل لا إله إلا الله؛ فإن قالها تبين صدقه، وإن أبى علمنا أن ذلك تلاعب، وكانت عند من يرى إسلامه ردة؛ والصحيح أنه كفر أصلي ليس بردة. وكذلك هذا الذي قال: سلام عليكم، يكلف الكلمة؛ فإن قالها تحقق رشاده، وإن أبى تبين عناده وقتل. وهذا معنى قوله{فتبينوا }أي الأمر المشكل، أو {تثبتوا }ولا تعجلوا المعنيان سواء. فإن قتله أحد فقد أتى منهيا عنه. فإن قيل: فتغليظ النبي صلى الله عليه وسلم على محلم، ونبذه من قبره كيف مخرجه ؟ قلنا: لأنه علم من نيته أنه لم يبال بإسلامه فقتله متعمدا لأجل الحنة التي كانت بينهما في الجاهلية. قوله تعالى{تبتغون عرض الحياة الدنيا} أي تبتغون أخذ ماله: ويسمى متاع الدنيا عرضا لأنه عارض زائل غير ثابت. قال أبو عبيدة: يقال جميع متاع الحياة الدنيا عرض بفتح الراء؛ ومنه: فليس الغنى عن كثرة المال*** إنما يكون الغنى والفقر من قبل النفس وهذا يصحح قول أبي عبيدة: فإن المال يشمل كل ما يتمول. وفي كتاب العين: العرض ما نيل من الدنيا؛ ومنه قوله تعالى قوله تعالى{فعند الله مغانم كثيرة} عدة من الله تعالى بما يأتي به على وجهه ومن حله دون ارتكاب محظور، أي فلا تتهافتوا. {كذلك كنتم من قبل }أي كذلك كنتم تخفون إيمانكم عن قومكم خوفا منكم على أنفسكم حتى من الله عليكم بإعزاز الدين وغلبة المشركين، فهم الآن كذلك كل واحد منهم في قومه متربص أن يصل إليكم، فلا يصلح إذ وصل إليكم أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره. وقال ابن زيد: المعنى كذلك كنتم كفرة {فمن الله عليكم }بأن أسلمتم فلا تنكروا أن يكون هو كذلك ثم يسلم لحينه حين لقيكم فيجب أن تتثبتوا في أمره. استدل بهذه الآية من قال: إن الإيمان هو القول، لقوله تعالى{ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا}. قالوا: ولما منع أن يقال لمن قال لا إله إلا الله لست مؤمنا منع من قتلهم بمجرد القول. ولولا الإيمان الذي هو هذا القول لم يعب قولهم. قلنا: إنما شك القوم في حالة أن يكون هذا القول منه تعوذا فقتلوه، والله لم يجعل لعباده غير الحكم بالظاهر؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: قوله تعالى{فتبينوا} أعاد الأمر بالتبيين للتأكيد. {إن الله كان بما تعملون خبيرا }تحذير عن مخالفة أمر الله؛ أي احفظوا أنفسكم وجنبوها الزلل الموبق لكم. {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما، درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما} قوله تعالى{لا يستوي القاعدون من المؤمنين }قال ابن عباس: لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها. ثم قال{غير أولي الضرر }والضرر الزمانة. روى الأئمة واللفظ لأبي داود عن زيد بن ثابت قال: كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشيته السكينة فوقعت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فما وجدت ثقل شيء أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سري عنه فقال: (اكتب ) فكتبت في كتف }لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله }إلى آخر الآية؛ فقام ابن أم مكتوم - وكان رجلا أعمى - لما سمع فضيلة المجاهدين فقال: يا رسول الله، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين ؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم السكينة فوقعت فخذه على فخذي، ووجدت من ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى، ثم سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (اقرأ يا زيد ) فقرأت {لا يستوي القاعدون من المؤمنين }فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم{غير أولي الضرر }الآية كلها. قال زيد: فأنزلها الله وحدها فألحقتها؛ والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع في كتف. وفي البخاري عن مقسم مولى عبدالله بن الحارث أنه سمع ابن عباس يقول{لا يستوي القاعدون من المؤمنين }عن بدر والخارجون إلى بدر. قال العلماء: أهل الضرر هم أهل الأعذار إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد. وصح وثبت في الخبر أنه عليه السلام قال - وقد قفل من بعض غزواته: قلت: والقول الأول أصح - إن شاء الله - للحديث الصحيح في ذلك (إن بالمدينة رجالا ) ولحديث أبي كبشة الأنماري قوله عليه السلام وقد تمسك بعض العلماء بهذه الآية بأن أهل الديوان أعظم أجرا من أهل التطوع؛ لأن أهل الديوان لما كانوا متملكين بالعطاء، ويصرفون في الشدائد، وتروعهم البعوث والأوامر، كانوا أعظم من المتطوع؛ لسكون جأشه ونعمة باله في الصوائف الكبار ونحوها. قال ابن محيريز: أصحاب العطاء أفضل من المتطوعة لما يروعون. قال مكحول: روعات البعوث تنفي روعات القيامة. وتعلق بها أيضا من قال: إن الغنى أفضل من الفقر؛ لذكر الله تعالى المال الذي يوصل به إلى صالح الأعمال. وقد اختلف الناس في هذه المسألة مع اتفاقهم أن ما أحوج من الفقر مكروه، وما أبطر من الغنى مذموم؛ فذهب قوم إلى تفضيل الغني، لأن الغني مقتدر والفقير عاجز، والقدرة أفضل من العجز. قال الماوردي: وهذا مذهب من غلب عليه حب النباهة. وذهب آخرون إلى تفضيل الفقر، لأن الفقير تارك والغني ملابس، وترك الدنيا أفضل من ملابستها. قال الماوردي: وهذا مذهب من غلب عليه حب السلامة. وذهب آخرون إلى تفضيل التوسط بين الأمرين بأن يخرج عن حد الفقر إلى أدنى مراتب الغنى ليصل إلى فضيلة الأمرين، وليسلم من مذمة الحالين. قال الماوردي: وهذا مذهب من يرى تفضيل الاعتدال وأن قوله تعالى{غير أولي الضرر }قراءة أهل الكوفة وأبو عمرو {غير }بالرفع؛ قال الأخفش: هو نعت للقاعدين؛ لأنهم لم يقصد بهم قوم بأعيانهم فصاروا كالنكرة فجاز وصفهم بغير؛ والمعنى لا يستوي القاعدون غير أولي الضرر؛ أي لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولي الضرر. والمعنى لا يستوي القاعدون الأصحاء؛ قال الزجاج. وقرأ أبو حيوة {غير }جعله نعتا للمؤمنين؛ أي من المؤمنين الذين هم غير أولي الضرر من المؤمنين الأصحاء. وقرأ أهل الحرمين }غير }بالنصب على الاستثناء من القاعدين أو من المؤمنين؛ أي إلا أولي الضرر فإنهم يستوون مع المجاهدين. وإن شئت على الحال من القاعدين؛ أي لا يستوي القاعدون من الأصحاء أي في حال صحتهم؛ وجازت الحال منهم؛ لأن لفظهم لفظ المعرفة، وهو كما تقول: جاءني زيد غير مريض. وما ذكرناه من سبب النزول يدل على معنى النصب، والله أعلم. قوله تعالى{فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة }وقد قال بعد هذا{درجات منه ومغفرة ورحمة }فقال قوم: التفضيل بالدرجة ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وبيان وتأكيد. وقيل: فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر بدرجة واحدة، وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير عذر درجات؛ قال ابن جريج والسدي وغيرهما. وقيل: إن معنى درجة علو، أي أعلى ذكرهم ورفعهم بالثناء والمدح والتقريظ. فهذا معنى درجة، ودرجات يعني في الجنة. قال ابن محيريز: سبعين درجة بين كل درجتين حضر الفرس الجواد سبعين سنة. و{درجات }بدل من أجر وتفسير له، ويجوز نصبه أيضا على تقدير الظرف؛ أي فضلهم بدرجات، ويجوز أن يكون توكيدا لقول {أجرا عظيما }لأن الأجر العظيم هو الدرجات والمغفرة والرحمة، ويجوز الرفع؛ أي ذلك درجات. و{أجرا }نصب بـ {فضل }وإن شئت كان مصدرا وهو أحسن، ولا ينتصب بـ {فضل }لأنه قد استوفى مفعوليه وهما قوله{المجاهدين }و {على القاعدين }؛ وكذا {درجة}. فالدرجات منازل بعضها أعلى من بعض. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا، إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا} المراد بها جماعة من أهل مكة كانوا قد أسلموا وأظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم الإيمان به، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم أقاموا مع قومهم وفتن منهم جماعة فافتتنوا، فلما كان أمر بدر خرج منهم قوم مع الكفار؛ فنزلت الآية. وقيل: إنهم لما استحقروا عدد المسلمين دخلهم شك في دينهم فارتدوا فقتلوا على الردة؛ فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا على الخروج فاستغفروا لهم؛ فنزلت الآية. والأول أصح. روى البخاري عن محمد بن عبدالرحمن قال: قطع على أهل المدينة بعث فاكتتبت فيه فلقيت عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته فنهاني عن ذلك أشد النهي، ثم قال: أخبرني ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل؛ فأنزل الله تعالى{إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم}. قوله تعالى{توفاهم الملائكة }يحتمل أن يكون فعلا ماضيا لم يستند بعلامة تأنيث، إذ تأنيث لفظ الملائكة غير حقيقي، ويحتمل أن يكون فعلا مستقبلا على معنى تتوفاهم؛ فحذفت إحدى التاءين. وحكى ابن فورك عن الحسن أن المعنى تحشرهم إلى النار. وقيل: تقبض أرواحهم؛ وهو أظهر. وقيل: المراد بالملائكة ملك الموت؛ لقوله تعالى قوله تعالى{فيم كنتم} سؤال توبيخ، وقد تقدم. والأصل }فيما }ثم حذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر، والوقف عليها (فيمه ) لئلا تحذف الألف والحركة. والمراد بقوله{ألم تكن أرض الله واسعة} المدينة؛ أي ألم تكونوا متمكنين قادرين على الهجرة والتباعد ممن كان يستضعفكم ! وفي هذه الآية دليل على هجران الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي. وقال سعيد بن جبير: إذا عمل بالمعاصي في أرض فاخرج منها؛ وتلا }ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها}. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: وقوله تعالى{لا يستطيعون حيلة} الحيلة لفظ عام لأنواع أسباب التخلص. والسبيل سبيل المدينة؛ فيما ذكر مجاهد والسدي وغيرهما، والصواب أنه عام في جميع السبل. وقوله تعالى{فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم} هذا الذي لا حيلة له في الهجرة لا ذنب له حتى يعفى عنه؛ ولكن المعنى أنه قد يتوهم أنه يجب تحمل غاية المشقة في الهجرة، حتى أن من لم يتحمل تلك المشقة يعاقب فأزال الله ذلك الوهم؛ إذ لا يجب تحمل غاية المشقة، بل كان يجوز ترك الهجرة عند فقد الزاد والراحلة. فمعنى الآية؛ فأولئك لا يستقصى عليهم في المحاسبة؛ ولهذا قال{وكان الله عفوا غفورا }والماضي والمستقبل في حقه تعالى واحد، وقد تقدم. {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما} قوله تعالى{ومن يهاجر في سبيل الله يجد} شرط وجوابه. { في الأرض مراغما} اختلف في تأويل المراغم؛ فقال مجاهد: المراغم المتزحزح. وقال ابن عباس والضحاك والربيع وغيرهم: المراغم المتحول والمذهب. وقال ابن زيد: والمراغم المهاجر؛ وقاله أبو عبيدة. قال النحاس: فهذه الأقوال متفقة المعاني. فالمراغم المذهب والمتحول في حال هجرة، وهو اسم الموضع الذي يراغم فيه، وهو مشتق من الرغام. ورغم أنف فلان أي لصق بالتراب. وراغمت فلانا هجرته وعاديته، ولم أبال إن رغم أنفه. وقيل: إنما سمي مهاجرا ومراغما لأن الرجل كان إذا أسلم عادى قومه وهجرهم، فسمى خروجه مراغما، وسمى مصيره إلى النبي صلى الله عليه وسلم هجرة. وقال السدي: المراغم المبتغي للمعيشة. وقال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: المراغم الذهاب في الأرض. وهذا كله تفسير بالمعنى، وكله قريب بعضه من بعض؛ فأما الخاص باللفظة فإن المراغم موضع المراغمة كما ذكرنا، وهو أن يرغم كل واحد من المتنازعين أنف صاحبه بأن يغلبه على مراده؛ فكأن كفار قريش أرغموا أنوف المحبوسين بمكة، فلو هاجر منهم مهاجر لأرغم أنوف قريش لحصوله في منعة منهم، فتلك المنعة هي موضع المراغمة. ومنه قول النابغة. قوله تعالى{وسعة} أي في الرزق؛ قال ابن عباس والربيع والضحاك. وقال قتادة: المعنى سعة من الضلالة إلى الهدى ومن العلة إلى الغنى. وقال مالك: السعة سعة البلاد. وهذا أشبه بفصاحة العرب؛ فإن بسعة الأرض وكثرة المعاقل تكون السعة في الرزق، واتساع الصدر لهمومه وفكره وغير ذلك من وجوه الفرج. ونحو هذا المعنى قول الشاعر: آخر: قال مالك: هذه الآية دالة على أنه ليس لأحد المقام بأرض يسب فيها السلف ويعمل فيها بغير الحق. وقال: والمراغم الذهاب في الأرض، والسعة سعة البلاد على ما تقدم. واستدل أيضا بعض العلماء بهذه الآية على أن للغازي إذا خرج إلى الغزو ثم مات قبل القتال له سهمه وإن لم يحضر الحرب؛ رواه ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أهل المدينة. وروي ذلك عن ابن المبارك أيضا. قوله تعالى{ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله} قال عكرمة مولى ابن عباس: طلبت اسم هذا الرجل أربع عشرة سنة حتى وجدته. وفي قول عكرمة هذا دليل على شرف هذا العلم قديما، وأن الاعتناء به حسن والمعرفة به فضل؛ ونحو منه قول ابن عباس: مكثت سنين أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يمنعني إلا مهابته. والذي ذكره عكرمة هو ضمرة بن العيص أو العيص بن ضمرة بن زنباع؛ حكاه الطبري عن سعيد بن جبير. ويقال فيه: ضميرة أيضا. ويقال: جندع بن ضمرة من بني ليث، وكان من المستضعفين بمكة وكان مريضا، فلما سمع ما أنزل الله في الهجرة قال: أخرجوني؛ فهيئ له فراش ثم وضع عليه وخرج به فمات في الطريق بالتنعيم، فأنزل الله فيه {ومن يخرج من بيته مهاجرا }الآية. وذكر أبو عمر أنه قد قيل فيه: خالد بن حزام بن خويلد ابن أخي خديجة، وأنه هاجر إلى أرض الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات قبل أن يبلغ أرض الحبشة؛ فنزلت فيه الآية، والله أعلم. وحكى أبو الفرج الجوزي أنه حبيب بن ضمرة. وقيل: ضمرة بن جندب الضمري؛ عن السدي. وحكي عن عكرمة أنه جندب بن ضمرة الجندعي. وحكي عن ابن جابر أنه ضمرة بن بغيض الذي من بني ليث. وحكى المهدوي أنه ضمرة بن ضمرة بن نعيم. وقيل: ضمرة بن خزاعة، والله أعلم. وروى معمر عن قتادة قال: لما نزلت {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } الآية، قال رجل من المسلمين وهو مريض: والله ما لي من عذر ! إني لدليل في الطريق، وإني لموسر فاحملوني. فحملوه فأدركه الموت في الطريق؛ فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لو بلغ إلينا لتم أجره؛ وقد مات بالتنعيم. وجاء بنوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بالقصة، فنزلت هذه الآية {ومن يخرج من بيته مهاجرا }الآية. وكان اسمه ضمرة بن جندب، ويقال: جندب بن ضمرة على ما تقدم. {وكان الله غفورا} لما كان منه من الشرك. {رحيما} حين قبل توبته. قال ابن العربي: قسم العلماء رضي الله عنهم الذهاب في الأرض قسمين: هربا وطلبا؛ فالأول ينقسم إلى ستة أقسام: الأول: الهجرة وهي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، وكانت فرضا في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة، والتي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان؛ فإن بقي في دار الحرب عصى؛ ويختلف في حاله. الثاني: الخروج من أرض البدعة؛ قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يسب فيها السلف. قال ابن العربي: وهذا صحيح؛ فإن المنكر إذا لم تقدر أن تغيره فزل عنه، قال الله تعالى فأما طلب الدين فيتعدد بتعدد أنواعه إلى تسعة أقسام: الأول: سفر العبرة؛ قال الله تعالى {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا} قوله تعالى{ضربتم }سافرتم، وقد تقدم. واختلف العلماء في حكم القصر في السفر؛ فروي عن جماعة أنه فرض. وهو قول عمر بن عبدالعزيز والكوفيين والقاضي إسماعيل وحماد بن أبي سليمان؛ واحتجوا قلت: وهو الذي يظهر من قوله سبحانه وتعالى{فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} إلا أن مالكا رحمه الله يستحب له القصر، وكذلك يرى عليه الإعادة في الوقت إن أتم. وحكى أبو مصعب في [1] قلت: فأين قوله تعالى{إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا }ونحن آمنون؛ قال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا ابن عمر قد أطلق عليها سنة؛ وكذلك قال ابن عباس. فأين المذهب عنهما ؟ قال أبو عمر: ولم يقم مالك إسناد هذا الحديث؛ لأنه لم يسم الرجل الذي سأل ابن عمر، وأسقط من الإسناد رجلا، والرجل الذي لم يسمه هو أمية بن عبدالله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، والله أعلم. واختلف العلماء في حد المسافة التي تقصر فيها الصلاة؛ فقال داود: تقصر في كل سفر طويل أو قصير، ولو كان ثلاثة أميال من حيث تؤتى الجمعة؛ متمسكا بما رواه مسلم عن يحيى بن يزيد الهنائي قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ - شعبة الشاك - صلى ركعتين. وهذا لا حجة فيه؛ لأنه مشكوك فيه، وعلى تقدير أحدهما فلعله حد المسافة التي بدأ منها القصر، وكان سفرا طويلا زائدا على ذلك، والله أعلم. قال ابن العربي: وقد تلاعب قوم بالدين فقالوا: إن من خرج من البلد إلى ظاهره قصر وأكل، وقائل هذا أعجمي لا يعرف السفر عند العرب أو مستخف بالدين، ولولا أن العلماء ذكروه لها رضيت أن ألمحه بمؤخر عيني، ولا أفكر فيه بفضول قلبي. ولم يذكر حد السفر الذي يقع به القصر لا في القرآن ولا في السنة، وإنما كان كذلك لأنها كانت لفظة عربية مستقر علمها عند العرب الذين - خاطبهم الله تعالى بالقرآن؛ فنحن نعلم قطعا أن من برز عن الدور لبعض الأمور أنه لا يكون مسافرا لغة ولا شرعا، وإن مشى مسافرا ثلاثة أيام فإنه مسافر قطعا. كما أنا نحكم على أن من مشى يوما وليلة كان مسافرا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: واختلفوا في نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة، فأجمع الناس على الجهاد والحج والعمرة وما ضارعها من صلة رحم وإحياء نفس. واختلفوا فيما سوى ذلك، فالجمهور على جواز القصر في السفر المباح كالتجارة ونحوها. وروي عن ابن مسعود أنه قال: لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد. وقال عطاء: لا تقصر إلا في سفر طاعة وسبيل من سبل الخير. وروي عنه أيضا: تقصر في كل السفر المباح مثل قول الجمهور. وقال مالك: إن خرج للصيد لا لمعاشه ولكن متنزها، أو خرج لمشاهدة بلدة متنزها ومتلذذا يقصر. والجمهور من العلماء على أنه لا قصر في سفر المعصية؛ كالباغي وقاطع الطريق وما في معناهما. وروي عن أبي حنيفة والأوزاعي إباحة القصر في جميع ذلك، وروي عن مالك. وقد تقدم في{البقرة }واختلفوا عن أحمد، فمرة قال بقول الجمهور، ومرة قال: لا يقصر إلا في حج أو عمرة. والصحيح ما قال الجمهور، لأن القصر إنما شرع تخفيفا عن المسافر للمشقات اللاحقة فيه، ومعونته على ما هو بصدده مما يجوز، وكل الأسفار في ذلك سواء؛ لقوله تعالى{وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح }أي إثم {أن تقصروا من الصلاة }فعم. وقال عليه السلام واختلفوا متى يقصر، فالجمهور على أن المسافر لا يقصر حتى يخرج من بيوت القرية، وحينئذ هو ضارب في الأرض، وهو قول مالك في المدونة. ولم يحد مالك في القرب حدا. وروي عنه إذا كانت قرية تجمع أهلها فلا يقصر أهلها حتى يجاوزوها بثلاثة أميال، وإلى ذلك في الرجوع. وإن كانت لا تجمع أهلها قصروا إذا جاوزوا بساتينها. وروي عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرا فصلى بهم ركعتين في منزله، وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد أصحاب ابن مسعود، وبه قال عطاء بن أبي رباح وسليمان بن موسى. قلت: ويكون معنى الآية على هذا{وإذا ضربتم في الأرض }أي إذا عزمتم على الضرب في الأرض. والله أعلم. وروي عن مجاهد أنه قال: لا يقصر المسافر يومه الأول حتى الليل. وهذا شاذ؛ وقد ثبت من حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعا وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين. أخرجه الأئمة، وبين ذي الحليفة والمدينة نحو من ستة أميال أو سبعة. الخامسة: وعلى المسافر أن ينوي القصر من حين الإحرام؛ فإن افتتح الصلاة بنية القصر ثم عزم على المقام في أثناء صلاته جعلها نافلة، وإن كان ذلك بعد أن صلى منها ركعة أضاف إليها أخرى وسلم، ثم صلى صلاة مقيم. قال الزهري وابن الجلاب: هذا - والله أعلم - استحباب ولو بنى على صلاته وأتمها أجزأته صلاته. قال أبو عمر: هو عندي كما قالا؛ لأنها ظهر، سفرية كانت أو حضرية وكذلك سائر الصلوات الخمس. واختلف العلماء من هذا الباب في مدة الإقامة التي إذا نواها المسافر أتم؛ فقال مالك والشافعي والليث بن سعد والطبري وأبو ثور: إذا نوى الإقامة أربعة أيام أتم؛ وروي عن سعيد بن المسيب. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: إذا نوى إقامة خمس عشرة ليلة أتم، وإن كان أقل قصر. وهو قول ابن عمر وابن عباس ولا مخالف لهما من الصحابة فيما ذكر الطحاوي، وروي عن سعيد أيضا. وقال أحمد: إذا جمع المسافر مقام إحدى وعشرين صلاة مكتوبة قصر، وإن زاد على ذلك أتم، وبه قال داود. والصحيح ما قاله مالك؛ لحديث ابن الحضرمي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثة أيام ثم يصدر. أخرجه الطحاوي وابن ماجة وغيرهما. ومعلوم أن الهجرة إذ كانت مفروضة قبل الفتح كان المقام بمكة لا يجوز؛ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجر ثلاثة أيام لتقضية حوائجه وتهيئة أسبابه، ولم يحكم لها بحكم المقام ولا في حيز الإقامة، وأبقى عليه فيها حكم المسافر، ومنعه من مقام الرابع، فحكم له بحكم الحاضر القاطن؛ فكان ذلك أصلا معتمدا عليه. ومثله ما فعله عمر رضي الله عنه حين أجلى اليهود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فجعل لهم مقام ثلاثة أيام في قضاء أمورهم. قال ابن العربي: وسمعت بعض أحبار المالكية يقول: إنما كانت الثلاثة الأيام خارجة عن حكم الإقامة؛ لأن الله تعالى أرجأ فيها من أنزل به العذاب وتيقن الخروج عن الدنيا؛ فقال تعالى وفي المسألة قول غير هذه الأقوال، وهو أن المسافر يقصر أبدا حتى يرجع إلى وطنه، أو ينزل وطنا له. روي عن أنس أنه أقام سنتين بنيسابور يقصر الصلاة. وقال أبو مجلز: قلت لابن عمر: إني آتي المدينة فأقيم بها السبعة أشهر والثمانية طالبا حاجة؛ فقال: صل ركعتين. وقال أبو إسحاق السبيعي: أقمنا بسجستان ومعنا رجال من أصحاب ابن مسعود سنتين نصلي ركعتين. وأقام ابن عمر بأذربيجان يصلي ركعتين ركعتين؛ وكان الثلج حال بينهم وبين القفول: قال أبو عمر: محمل هذه الأحاديث عندنا على أن لا نية لواحد من هؤلاء المقيمين هذه المدة؛ وإنما مثل ذلك أن يقول: أخرج اليوم، أخرج غدا؛ وإذا كان هكذا فلا عزيمة ههنا على الإقامة. روى مسلم قلت: وقد اعترض على هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مشرعا، وليست هي كذلك فانفصلا. وأضعف من هذا قول من قال: إنها حيث أتمت لم تكن في سفر جائز؛ وهذا باطل قطعا، فإنها كانت أخوف لله وأتقى من أن تخرج في سفر لا يرضاه. وهذا التأويل عليها من أكاذيب الشيعة المبتدعة وتشنيعاتهم؛ سبحانك هذا بهتان عظيم ! وإنما خرجت رضي الله عنها مجتهدة محتسبة تريد أن تطفئ نار الفتنة، إذ هي أحق أن يستحيا منها فخرجت الأمور عن الضبط. وسيأتي بيان هذا المعنى إن شاء الله تعالى. وقيل: إنها أتمت لأنها لم تكن ترى القصر إلا في الحج والعمرة والغزوة. وهذا باطل؛ لأن ذلك لم ينقل عنها ولا عرف من مذهبها، ثم هي قد أتمت في سفرها إلى علي. وأحسن ما قيل في قصرها وإتمامها أنها أخذت برخصة الله؛ لتري الناس، أن الإتمام ليس فيه حرج وإن كان غيره أفضل. وقد قال عطاء: القصر سنة ورخصة، وهو الراوي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام وأفطر وأتم الصلاة وقصر في السفر، رواه طلحة بن عمر. وعنه قال: كل ذلك كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، صام وأفطر وقصر الصلاة وأتم. قوله تعالى{أن تقصروا من الصلاة }{أن }في موضع نصب، أي في أن تقصروا. قال أبو عبيد: فيها ثلاث لغات: قصرت الصلاة وقصرتها وأقصرتها. واختلف العلماء في تأويله، فذهب جماعة من العلماء إلى أنه القصر إلى اثنتين من أربع في الخوف وغيره؛ لحديث يعلي بن أمية على ما يأتي. وقال آخرون: إنما هو قصر الركعتين إلى ركعة، والركعتان في السفر إنما هي تمام، كما قال عمر رضي الله عنه: تمام غير قصر، وقصرها أن تصير ركعة. قال السدي: إذا صليت في السفر ركعتين فهو تمام، والقصر لا يحل إلا أن تخاف، فهذه الآية مبيحة أن تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها شيئا، ويكون للإمام ركعتان. وروي نحوه عن ابن عمر وجابر بن عبدالله وكعب، وفعله حذيفة بطبرستان وقد سأله الأمير سعيد بن العاص عن ذلك. وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك في غزوة ذي قرد ركعة لكل طائفة ولم يقضوا. وروى جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بأصحابه يوم محارب خصفة وبني ثعلبة. وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بين ضجنان وعسفان. قلت: في صحيح مسلم قلت: وهذا لا يصح، وقد ذكر هو وغيره الخلاف والنزاع فلم يصح ما ادعوه من الإجماع وبالله التوفيق. وحكى أبو بكر الرازي الحنفي في [4] قلت: هذه الأقوال الثلاثة في المعنى متقاربة، وهي مبنية على أن فرض المسافر القصر، وإن الصلاة في حقه ما نزلت إلا ركعتين، فلا قصر. ولا يقال في العزيمة لا جناح، ولا يقال فيما شرع ركعتين إنه قصر، كما لا يقال في صلاة الصبح ذلك. وذكر الله تعالى القصر بشرطين والذي يعتبر فيه الشرطان صلاة الخوف؛ هذا ما ذكره أبو بكر الرازي في [5] قوله تعالى{إن خفتم} خرج الكلام على الغالب، إذ كان الغالب على المسلمين الخوف في الأسفار؛ ولهذا قلت: وقد استدل أصحاب الشافعي وغيرهم على الحنفية بحديث يعلى بن أمية هذا فقالوا: إن قوله{ما لنا نقصر وقد أمنا }دليل قاطع على أن مفهوم الآية القصر في الركعات. قال الكيا الطبري: ولم يذكر أصحاب أبي حنيفة على هذا تأويلا يساوي الذكر؛ ثم إن صلاة الخوف لا يعتبر فيها الشرطان؛ فإنه لو لم يضرب في الأرض ولم يوجد السفر بل جاءنا الكفار وغزونا في بلادنا فتجوز صلاة الخوف؛ فلا يعتبر وجود الشرطين على ما قال. وفي قراءة أبي {أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا }بسقوط {إن خفتم}. والمعنى على قراءته: كراهية أن يفتنكم الذين كفروا. وثبت في مصحف عثمان رضي الله عنه {إن خفتم}. وذهب جماعة إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة للقصر في السفر للخائف من العدو؛ فمن كان آمنا فلا قصر له. روي عن عائشة رضى الله عنها أنها كانت تقول في السفر: أتموا صلاتكم؛ فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر، فقالت: إنه كان في حرب وكان يخاف، وهل أنتم تخافون ؟. وقال عطاء: كان يتم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة وسعد بن أبي وقاص وأتم عثمان، ولكن ذلك معلل بعلل تقدم بعضها. وذهب جماعة إلى أن الله تعالى لم يبح القصر في كتابه إلا بشرطين: السفر والخوف، وفي غير الخوف بالسنة، منهم الشافعي وقد تقدم. وذهب آخرون إلى أن قوله تعالى{إن خفتم }ليس متصلا بما قبل، وإن الكلام تم عند قوله{من الصلاة }ثم افتتح فقال{إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا }فأقم لهم يا محمد صلاة الخوف. وقوله{إن الكافرين. كانوا لكم عدوا مبينا }كلام معترض، قاله الجرجاني وذكره المهدوي وغيرهما. ورد هذا القول القشيري والقاضي أبو بكر بن العربي. قال القشيري أبو نصر: وفي الحمل على هذا تكلف شديد، وإن أطنب الرجل - يريد الجرجاني - في التقدير وضرب الأمثلة. وقال ابن العربي: وهذا كله لم يفتقر إليه عمر ولا ابنه ولا يعلي بن أمية معهما. قلت: قد جاء حديث بما قاله الجرجاني ذكره القاضي أبو الوليد بن رشد في مقدماته، وابن عطية أيضا في تفسيره عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي ؟ فأنزل الله تعالى{وإذا ضربتم في الأرض فليس عليم جناح أن تقصروا من الصلاة }ثم انقطع الكلام، فلما كان بعد ذلك بحول غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم ؟ فقال قائل منهم: إن لهم أخرى في أثرها فأنزل الله تعالى بين الصلاتين }إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا }إلى آخر صلاة الخوف. فإن صح هذا الخبر فليس لأحد معه مقال، ويكون فيه دليل على القصر في غير الخوف بالقرآن. وقد روى عن ابن عباس أيضا مثله، قال: إن قوله تعالى{وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة }نزلت في الصلاة في السفر، ثم نزل {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا }في الخوف بعدها بعام. فالآية على هذا تضمنت قضيتين وحكمين. فقوله{وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة }يعني به في السفر؛ وتم الكلام، ثم ابتدأ فريضة أخرى فقدم الشرط؛ والتقدير: إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة. والواو زائدة، والجواب }فلتقم طائفة منهم معك}. وقوله{إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا }اعتراض. وذهب قوم إلى أن ذكر الخوف منسوخ بالسنة، وهو حديث عمر إذ روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا} قوله تعالى{وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة }روى الدارقطني عن أبي عياش الزرقي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان، فاستقبلنا المشركون، عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر، فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم؛ قال: ثم قالوا تأتي الآن عليهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم؛ قال: فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية بين الظهر والعصر }وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة}. وذكر الحديث. وسيأتي تمامه إن شاء الله تعالى. وهذا كان سبب إسلام خالد رضي الله عنه. وقد اتصلت هذه الآية بما سبق من ذكر الجهاد. وبين الرب تبارك وتعالى أن الصلاة لا تسقط بعذر السفر ولا بعذر الجهاد وقتال العدو، ولكن فيها رخص على ما تقدم في }البقرة }وهذه السورة، بيانه من اختلاف العلماء. وهذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو يتناول الأمراء بعده إلى يوم القيامة، ومثله قوله تعالى قوله تعالى{فلتقم طائفة منهم معك} يعني جماعة منهم جماعة منهم تقف معك في الصلاة. {ليأخذوا أسلحتهم }يعني الذين يصلون معك. ويقال{وليأخذوا أسلحتهم }الذين هم بإزاء العدو، على ما يأتي بيانه. ولم يذكر الله تعالى في الآية لكل طائفة إلا ركعة واحدة، ولكن روى في الأحاديث أنهم أضافوا إليها أخرى، على ما يأتي. وحذفت الكسرة من قوله{فلتقم }و {فليكونوا} لثقلها. وحكى الأخفش والقراء والكسائي أن لام الأمر ولام كي ولام الجحود يفتحن. وسيبويه يمنع من ذلك لعلة موجبة، وهى الفرق بين لام الجر ولام التأكيد. والمراد من هذا الأمر الانقسام، أي وسائرهم وجاه العدو حذر من توقع حملته. وقد اختلفت الروايات في هيئة صلاة الخوف، واختلف العلماء لاختلافها؛ فذكر ابن القصار أنه صلى الله عليه وسلم صلاها في عشرة مواضع. قال ابن العربي: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الخوف أربعا وعشرين مرة. وقال الإمام أحمد بن حنبل، وهو إمام أهل الحديث والمقدم في معرفة علل النقل فيه: لا أعلم أنه روى في صلاة الخوف إلا حديث ثابت. وهي كلها صحاح ثابتة، فعلى أي حديث صلى منها المصلي صلاة الخوف أجزأه إن شاء الله. وكذلك قال أبو جعفر الطبري. وأما مالك وسائر أصحابه إلا أشهب فذهبوا في صلاة الخوف إلى حديث سهل بن أبي حثمة، وهو ما رواه في موطئه عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات الأنصاري أن سهل بن أبي حثمة حدثه أن صلاة الخوف أن يقوم الإمام ومعه طائفة من أصحابه وطائفة مواجهة العدو، فيركع الإمام ركعة وسجد بالذين معه ثم يقوم، فإذا استوى قائما ثبت، وأتموا لأنفسهم الركعة الباقية ثم يسلمون وينصرفون والإمام قائم، فيكونون وجاه العدو، ثم يقبل الآخرون الذين لم يصلوا فيكبرون وراء الإمام فيركع بهم الركعة ويسجد ثم يسلم، فيقومون ويركعون لأنفسهم الركعة الباقية ثم يسلمون. قال ابن القاسم صاحب مالك: والعمل عند مالك على حديث القاسم بن محمد عن صالح بن خوات. قال ابن القاسم: وقد كان يأخذ بحديث مزيد بن رومان ثم رجع إلى هذا. قال أبو عمر: حديث القاسم وحديث يزيد بن رومان كلاهما عن صالح بن خوات: إلا أن بينهما فصلا في السلام، ففي حديث القاسم أن الإمام يسلم بالطائفة الثانية ثم يقومون فيقضون لأنفسهم الركعة، وفي حديث يزيد بن رومان أنه ينتظرهم ويسلم بهم. وبه قال الشافعي وإليه ذهب؛ قال الشافعي: حديث يزيد بن رومان عن صالح بن خوات هذا أشبه الأحاديث في صلاة الخوف بظاهر كتاب الله، وبه أقول. ومن حجة مالك في اختياره حديث القاسم القياس على سائر الصلوات، في أن الإمام ليس له أن ينتظر أحدا سبقه بشيء منها، وأن السنة المجتمع عليها أن يقضي المأمومون ما سبقوا به بعد سلام الإمام. وقول أبي ثور في هذا الباب كقول مالك، وقال أحمد كقول الشافعي في المختار عنده؛ وكان لا يعيب من فعل شيئا من الأوجه المرومة في صلاة الخوف. وذهب أشهب من أصحاب مالك إلى حديث ابن عمر قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة. وقال ابن عمر: فإذا كان خوف أكثر من ذلك صلى راكبا أو قائما يومئ إيماء، أخرجه البخاري ومسلم ومالك وغيرهم. وإلى هذه الصفة ذهب الأوزاعي، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبدالبر، قال: لأنه أصحها إسنادا، وقد ورد بنقل أهل المدينة وبهم الحجة على من خالفهم، ولأنه أشبه بالأصول، لأن الطائفة الأولى والثانية لم يقضوا الركعة إلا بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة، وهو المعروف من سنته المجتمع عليها في سائر الصلوات. وأما الكوفيون: أبو حنيفة وأصحابه إلا أبا يوسف القاضي يعقوب فذهبوا إلى حديث عبدالله بن مسعود، أخرجه أبو داود والدارقطني قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فقاموا صفين، صفا خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصفا مستقبل العدو، فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة؛ وجاء الآخرون فقاموا مقامهم، واستقبل هؤلاء العدو فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سلم، فقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ثم ذهبوا فقاموا مقام أولئك مستقبلين العدو، ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا. وهذه الصفة والهيئة هي الهيئة المذكورة في حديث ابن عمر إلا أن بينهما فرقا؛ وهو أن قضاء أولئك في حديث ابن عمر يظهر أنه في حالة واحدة ويبقى الإمام كالحارس وحده، وههنا قضاؤهم متفرق على صفة صلاتهم. وقد تأول بعضهم حديث ابن عمر على ما جاء في حديث ابن مسعود. وقد ذهب إلى حديث ابن مسعود الثوري - في إحدى الروايات الثلاث عنه - وأشهب بن عبدالعزيز فيما ذكر أبو الحسن اللخمي عنه، والأول ذكره أبو عمر وابن يونس وابن حبيب عنه. وروى أبو داود من حديث حذيفة وأبي هريرة وابن عمر أنه عليه السلام صلى بكل طائفة ركعة ولم يقضوا، وهو مقتضى حديث ابن عباس {وفي الخوف ركعة}. وهذا قول إسحاق. وقد تقدم في {البقرة }الإشارة إلى هذا، وأن الصلاة أولى بما احتيط لها، وأن حديث ابن عباس لا تقوم به حجة، وقوله في حديث حذيفة وغيره{ولم يقضوا }أي في علم من روى ذلك، لأنه قد روي أنهم قضوا ركعة في تلك الصلاة بعينها، وشهادة من زاد أولى. ويحتمل أن يكون المراد لم يقضوا، أي لم يقضوا إذا أمنوا، وتكون فائدة أن الخائف إذا أمن لا يقضي ما صلى على تلك الهيئة من الصلوات في الخوف، قال جميعه أبو عمر. وفي صحيح مسلم عن جابر أنه عليه الصلاة والسلام صلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين. قال: فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان. وأخرجه أبو داود والدارقطني من حديث الحسن عن أبي بكرة وذكرا فيه أنه سلم من كل ركعتين. وأخرجه الدارقطني أيضا عن الحسن عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم ركعتين ثم سلم، ثم صلى بالآخرين ركعتين ثم سلم. قال أبو داود: وبذلك كان الحسن يفتي، وروي عن الشافعي. وبه يحتج كل من أجاز اختلاف نية الإمام والمأموم في الصلاة، وهو مذهب الشافعي والأوزاعي وابن علية وأحمد بن حنبل وداود. وعضدوا هذا بحديث جابر: أن معاذا كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم يأتي فيؤم قومه، الحديث. وقال الطحاوي: إنما كان هذا في أول الإسلام إذ كان يجوز أن تصلي الفريضة مرتين ثم نسخ ذلك، والله أعلم. فهذه أقاويل العلماء في صلاة الخوف. وهذه الصلاة المذكورة في القرآن إنما يحتاج إليها والمسلمون مستدبرون القبلة ووجه العدو القبلة، وإنما اتفق هذا بذات الرقاع، فأما بعسفان والموضع الآخر فالمسلمون كانوا في قبالة القبلة. وما ذكرناه من سبب النزول في قصة خالد بن الوليد لا يلائم تفريق القوم إلى طائفتين، فإن قلت: ولا تعارض بين هذه الروايات، فلعله صلى بهم صلاة كما جاء في حديث أبي عياش مجتمعين، وصلى بهم صلاة أخرى متفرقين كما جاء في حديث أبي هريرة، ويكون فيه حجة لمن يقول صلاة الخوف ركعة. قال الخطابي: صلاة الخوف أنواع صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة وأشكال متباينة، يتوخى فيها كلها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة. واختلفوا في كيفية صلاة المغرب، فروى الدارقطني عن الحسن عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالقوم صلاة المغرب ثلاث ركعات ثم انصرفوا، وجاء الآخرون فصلى بهم ثلاث ركعات، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ستا وللقوم ثلاثا ثلاثا، وبه قال الحسن. والجمهور في صلاة المغرب على خلاف هذا، وهو أنه يصلي بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة، وتقضي على اختلاف أصولهم فيه متى يكون ؟ هل قبل سلام الإمام أو بعده. هذا قول مالك وأبي حنيفة، لأنه أحفظ لهيئة الصلاة. وقال الشافعي: يصلي بالأولى ركعة، لأن عليا رضي الله عنه فعلها ليلة الهرير، والله تعالى أعلم. واختلفوا في صلاة الخوف عند التحام الحرب وشدة القتال وخيف خروج الوقت فقال مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وعامة العلماء: يصلي كيفما أمكن، لقول ابن عمر: فإن كان خوف أكثر من ذلك فيصلي راكبا أو قائما يومئ إيماء. قال في الموطأ: مستقبل القبلة وغير مستقبلها، وقد تقدم في }البقرة }قول الضحاك وإسحاق. وقال الأوزاعي: إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء كل امرئ لنفسه؛ فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال ويأمنوا فيصلوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلوا ركعة سجدتين، فإن لم يقدروا يجزئهم التكبير ويؤخروها حتى يأمنوا؛ وبه قال مكحول. قلت: وحكاه الكيا الطبري في [6] قلت: وهذا القول يدل على صحة قول أنس: حضرت مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال فلم نقدر على الصلاة إلا بعد ارتفاع النهار؛ فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا. قال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها، ذكره البخاري وإليه كان يذهب شيخنا الأستاذ أبو جعفر أحمد بن محمد بن محمد القيسي القرطبي المعروف بأبي حجة؛ وهو اختيار البخاري فيما يظهر؛ لأنه أردفه واختلفوا في صلاة الطالب والمطلوب؛ فقال مالك وجماعة من أصحابه هما سواء، كل واحد منهما يصلي على دابته. وقال الأوزاعي والشافعي وفقهاء أصحاب الحديث وابن عبدالحكم: لا يصلي الطالب إلا بالأرض وهو الصحيح؛ لأن الطلب تطوع، والصلاة المكتوبة فرضها أن تصلي بالأرض حيثما أمكن ذلك، ولا يصليها راكب إلا خائف شديد خوفه وليس كذلك الطالب. والله أعلم. واختلفوا أيضا في العسكر إذا رأوا سوادا فظنوه عدوا فصلوا صلاة الخوف ثم بان لهم أنه غير شيء؛ فلعلمائنا فيه روايتان: إحداهما يعيدون، وبه قال أبو حنيفة. والثانية لا إعادة عليهم، وهو أظهر قولي الشافعي. ووجه الأولى أنهم تبين لهم الخطأ فعادوا إلى الصواب كحكم الحاكم. ووجه الثانية أنهم عملوا على اجتهادهم فجاز لهم كما لو أخطؤوا القبلة؛ وهذا أولى لأنهم فعلوا ما أمروا به. وقد يقال: يعيدون في الوقت، فأما بعد خروجه فلا. والله أعلم. قوله تعالى{وليأخذوا أسلحتهم }وقال{وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم }هذا وصاة بالحذر وأخذ السلاح لئلا ينال العدو أمله ويدرك فرصته. والسلاح ما يدفع به المرء عن نفسه في الحرب، قال عنترة: يقول: أعرته سلاحي ليمتنع بها بعد عريه من السلاح. قال ابن عباس{وليأخذوا أسلحتهم }يعني الطائفة التي وجاه العدو، لأن المصلية لا تحارب. وقال غيره: هي المصلية أي وليأخذ الذين صلوا أولا أسلحتهم، ذكره، الزجاج. قال: ويحتمل أن تكون الطائفة الذين هم في الصلاة أمروا بحمل السلاح؛ أي فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإنه أرهب للعدو. النحاس: يجوز أن يكون للجميع؛ لأنه أهيب. للعدو. ويحتمل أن يكون للتي وجاه العدو خاصة. قال أبو عمر: أكثر أهل العلم يستحبون للمصلي أخذ سلاحه إذا صلى في الخوف، ويحملون قوله{وليأخذوا أسلحتهم }على الندب؛ لأنه شيء لولا الخوف لم يجب أخذه؛ فكان الأمر به ندبا. وقال أهل الظاهر: أخذ السلاح في صلاة الخوف واجب لأمر الله به، إلا لمن كان به أذى من مطر، فإن كان ذلك جاز له وضع سلاحه. قال ابن العربي: إذا صلوا أخذوا سلاحهم عند الخوف، وبه قال الشافعي وهو نص القرآن. وقال أبو حنيفة: لا يحملونها؛ لأنه لو وجب عليهم حملها لبطلت الصلاة بتركها. قلنا: لم يجب حملها لأجل الصلاة وإنما وجب عليهم قوة لهم ونظرا. قوله تعالى{فإذا سجدوا} الضمير في {سجدوا} للطائفة المصلية فلينصرفوا؛ هذا على بعض الهيئات المروية. وقيل: المعنى فإذا سجدوا ركعة القضاء؛ وهذا على هيئة سهل بن أبي حثمة. ودلت هذه الآية على أن السجود قد يعبر به عن جميع الصلاة؛ وهو كقوله عليه السلام قوله تعالى{ود الذين كفروا} أي تمنى وأحب الكافرون غفلتكم عن أخذ السلاح ليصلوا إلى مقصودهم؛ فبين الله تعالى بهذا وجه الحكمة في الأمر بأخذ السلاح، وذكر الحذر في الطائفة الثانية دون الأولى؛ لأنها أولى بأخذ الحذر، لأن العدو لا يؤخر قصده عن هذا الوقت لأنه آخر الصلاة؛ وأيضا يقول العدو قد أثقلهم السلاح وكلوا. وفي هذه الآية أدل دليل على تعاطي الأسباب، واتخاذ كل ما ينجي ذوي الألباب، ويوصل إلى السلامة، ويبلغ دار الكرامة. }ميلة واحدة} مبالغة، أي مستأصلة لا يحتاج معها إلى ثانية. قوله تعالى{ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر} الآية. للعلماء في وجوب حمل السلاح في الصلاة كلام قد أشرنا إليه، فإن لم يجب فيستحب للاحتياط. ثم رخص في المطر وضعه؛ لأنه تبتل المبطنات وتثقل ويصدأ الحديد. وقيل: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم يوم بطن نخلة لما انهزم المشركون وغنم المسلمون؛ وذلك أنه كان يوما مطيرا وخرج النبي صلى الله عليه وسلم لقضاء حاجته واضعا سلاحه، فرآه الكفار منقطعا عن أصحابه فقصده غورث بن الحارث فانحدر عليه من الجبل بسيفه، فقال: من يمنعك مني اليوم ؟ فقال: (الله ) ثم قال: (اللهم اكفني الغورث بما شئت ). فأهوى بالسيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليضربه، فانكب لوجهه لزلقة زلقها.
|